الدكتور عبد الحليم قنديل يكتب..بانتظار الرد الإيرانى

جريدة بكره احلى الاخبارية رئيس مجلس الإدارة والتحرير وجدى وزيرى

من مخازى المشهد العربى الراهن ، أن أحدا لم يخرج بعد تدمير طائرات الاحتلال لقنصلية طهران فى دمشق ، وسأل عن رد سوريا على العدوان الداهس لسيادتها وسوابقه التى لا تحصى ، ولا عن رد أى طرف عربى آخر ، بل كانت الأسئلة كلها عن رد إيران ، وربما يعبر السؤال المعوج عن تسليم صار مستقرا بحقائق الهوان العربى ، وكأن دمشق ليست عاصمة لبلد عربى ولا لنظام ، بل محض جغرافيا ، صارت مجرد عنوان بريدى ، ومحلا مختارا رخوا لتلقى الضربات فى حرب الكيان ضد إيران ، التى تتواصل حلقاتها من سنوات ، وتفاقمت حمم النار فيها بعد “طوفان الأقصى” وحرب “غزة” الجارية فصولها .
وقد لا نكون بحاجة لشروح مضافة عن الذى جرى ويجرى ، وهو لم يبدأ اليوم ، ولا مع حرب سوريا بعد دفن ثورتها ، بل تعود الأصول إلى نحو خمسين سنة مضت ، مع الاستثمار العكسى لنتائج ومغزى النصر فى حرب أكتوبر المصرية السورية ، وقرار الرئيس السادات بإخراج مصر الرسمية من جبهة الصراع ضد كيان الاحتلال ، وعقد ما يسمى معاهدة السلام قبل 45 سنة ، وفتح سفارة للكيان الصهيونى فى القاهرة ، وفى ذات العام 1979 ، الذى قامت فيه “ثورة الخمينى” الإيرانية ، وأغلقت سفارة العدو فى طهران ، وحولتها إلى سفارة لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وكان التحول أكبر من عقد معاهدات وحركة سفارات ، كان إيذانا بانسحاب مصر من المشرق العربى عموما ، وغض الطرف عن أحواله ، التى راحت تتفجر تباعا ، من حرب لبنان الأهلية بدءا من عام 1975 ، وإلى غزو العراق للكويت عام 1990 ، وإلى تحطيم سوريا بعد العراق ، كان الغياب المصرى يخلى الساحات ، بينما كان يزحف الدور الإيرانى ، فكل فراغ تتركه خلفك يحتله غيرك ، ولم يكن من طرف آخر مؤهلا لاتصال دور عربى جامع موحد فى المشرق ، ولا لحمل مسئولية مشروع عربى فى أدنى درجاته ، اللهم إلا من أطراف الفوائض المالية ودفاتر الشيكات ، ومن دون مضامين بناء أو تماسك لتكوينات فسيفسائية بطبيعتها ، وهكذا وجدت إيران ومشروعها طريقا خاليا ممهدا ، خصوصا أن الأطراف البديلة للدور المصرى القديم ، انغمست حتى الآذان فى اللعبة الطائفية ، وكان ذلك مما يسوغ للدور الإيرانى ، ويفتح الأبواب واسعة لتوحشه ، وتدفقت عشرات مليارات الدولارات على مشايخ وجماعات تكفير ، تنفذ بالوعى أو بدونه حملات “فرق تسد” طائفية لحساب الغير المتربص ، وتكفر الشيعة العرب بالجملة ، خصوصا بعد مشاركة نظم عربية وازنة فى دعم المجهود الحربى الأمريكى لغزو العراق عام 2003 ، الذى ترك فراغا ملأته إيران ، وكانت جملة التطورات مواتية تماما للنظام الإيرانى ، الذى يرتكز فى جوهره إلى تفسير خاص لمذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية ، ويعد المذهبية الشيعية عنصر تماسك “قومى” غالب فى إيران المتعددة القوميات ، بينما “التمذهب” و”التطييف” يمزق نسيج المجتمعات العربية المجاورة ، وهكذا راحت إيران تضيف إلى توابعها وجماعاتها ، سواء فى أقطار المشرق العربى ، وعلى حواف الخليج العربى ، وتمد حضورها الاستراتيجى إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط ، وإلى العنق الجنوبى للبحر الأحمر عبر “الحوثيين” المتشيعين فى اليمن ، وهكذا تكونت ملامح الصورة الراهنة ، بما فيها تفريغ أوضاع أقطار عربية ضحية من معانى الاستقلال الذاتى ، أو حتى الحفاظ على مبنى الدول بعد نفاد معانيها ، إضافة لتردى ظروفها إلى قيعان الفشل المقيم المزمن ، وتحولها إلى جغرافيا مفتوحة لصدامات إيران مع “إسرائيل” ، ومع أمريكا أحيانا ، وبالذات مع تصاعد القوة العسكرية الإيرانية ، وتطور برامجها الصاروخية والنووية ، وكان طبيعيا أن تصل القصة إلى ذروتها ، وأن يجرى التسليم عمليا بأيلولة قيادة قضايا المنطقة المركزية إلى طرفها الإيرانى بعد غياب وتنائى قلبها المصرى .
ولست بالطبع مع شطط المساواة بين إيران وكيان الاحتلال “الإسرائيلى” ، فإيران فى البدء والمنتهى من حقائق المنطقة الأصلية ، وتوحش نفوذها ومشروعها ، ليس له من سبب جوهرى إلا غياب المشروع العربى المقابل المجاور ، وميل أغلب الأنظمة العربية القائمة إلى احتماء بالمظلة الأمريكية ، وإلى تفاهم مرئى مع كيان الاحتلال “الإسرائيلى” نفسه ، ورفعها لرايات عروبة مريبة ، عروبة فارغة من أى معنى للعروبة ، وتفرط ـ ربما تخون ـ قضية الأمة ، وبالذات فى عنوانها الفلسطينى ، الذى التمس فيه المشروع الإيرانى دفئا خاصا ، عملت عليه السياسة الإيرانية بذكاء ودأب ، وإلى أن صارت طهران هى الداعم الأول ماليا وعسكريا لجماعات المقاومة اللبنانية والفلسطينية ، بينما النظم العربية الوازنة تخلت عن المقاومة ، بل وعملت ضدها ، وتواصل خيبة البحث عن السلام كخيار “استراتيجى” (!) ، وتغفل عن ، بل وتصادم تطورا محسوسا على الصعيد الشعبى ، جعل المقاومة أولا فى لبنان ، ثم بعدها فى فلسطين ، هى الخيار الاستراتيجى الجديد العائد ، الذى أنجز تحريرالجنوب اللبنانى ، ثم تحرير “غزة” الأول عام 2005 ، وبوسعه ـ بإذن الله ـ كسب تحرير “غزة” النهائى فى الحرب الجارية اليوم ، التى تجد الأنظمة العربية نفسها معزولة عن مجراها ، اللهم إلا من باب تقديم بعض المساعدات الإنسانية ، والعودة لتكرار معزوفة “حل الدولتين” ، أو إقامة دولة فلسطينية ، لن يفتح لها باب النور بغير المقاومة المسلحة ، وبغير برنامج كفاح فلسطينى موحد ، يصوغ الغايات النهائية والمرحلية ، فقد سقطت كل مراهنات الخيار “السلامى” البائس ، من “كامب ديفيد” إلى “وادى عربة” و”أوسلو” وأخواتها ، ناهيك عن صفقات التطبيع واتفاقات “أبراهام” وأشباهها ، وهو ما يضع سيرة الأنظمة العربية فى مأزق ، يكاد يشبه مأزق كيان الاحتلال “الإسرائيلى” نفسه ، كذا مأزق “أمريكا” شريكته فى حرب الإبادة ، ومع المأزق الجامع لحلفاء المسرح الإجرامى ، تكاد إيران هى الأخرى تصل إلى حائط مسدود ، فقد لا ينكر أحد دورها فى دعم جماعات المقاومة ، لكن سيرة الصراع تجاوزت حتى حدود الدور الإيرانى ، فلم تعلم طهران بعملية “طوفان الأقصى” المزلزلة قبل الشروع فى التنفيذ ، وقد كانت تفترض العلم المسبق والإجازة أو المنع بحكم كونها رأسا لما تسميه “محور الممانعة” ، وليس ببعيد ذلك الخلاف العلنى الذى دار ، ورفضت فيه “حركة حماس” مزاعم إيرانية ، هدفت إلى تجيير “طوفان الأقصى” لصالح طهران ، وادعت أن العملية “الفلسطينية” الخالصة كانت ثأرا لاغتيال “قاسم سليمانى” قيادى الحرس الثورى الإيرانى ، وقد تجد حركات مقاومة فلسطينية نفسها مدفوعة لحفظ خيوط إلى طهران ، فلا توجد حركة مقاومة فى التاريخ تصد يدا تدعمها ، وحركات المقاومة الفلسطينية بلغت حدا مميزا من الرشد ، وإلى حد امتناعها عن الدخول فى ملاسنات علنية مع أطراف عربية تخذلها ، وليس من مصلحتها ولا صالح قضيتها الفلسطينية من باب أولى ، أن تدخل فى مماحكات مع أطراف تبدى رغبة فى دعمها ، وعلى أن يكون الشعار والغاية فلسطين أولا ، فالمنطقة مزدحمة بعشرات من القضايا والإشكاليات والمآزق والمآسى ، لا يصح لقضية التحرير الفلسطينى المقدسة أن تتوه فى دهاليزها ، وتحرير فلسطين يبدأ من فلسطين ، وليس من أى مكان آخر ، وعقيدة المقاومة الفلسطينية هى فلسطين وقدسها وأقصاها وكنائسها وأرضها من النهر إلى البحر ، وقد أثبت الشعب الفلسطينى مقدرة لا تنفد على الفداء والتضحية ، ورد اعتبار قضيته فى العالمين ، وجعلها قضية العالم الأولى اليوم ، والعنوان الأبرز لتحركات ومظاهرات أحرار الدنيا ، حتى فى عواصم الغرب المتواطئ بالخلقة مع كيان الاحتلال الصهيونى ، وهو ما لا نشهد له مثيلا فى أغلب عواصم العرب المحكومة بالخفافيش ، ومن دون إنكار حقيقة تعلق قلوب الشعوب العربية بالهم الفلسطينى ، ففلسطين توحد العرب ، ولكن ليسوا هم الذين يحررونها اليوم ، ولا الإيرانيون طبعا ، المحكومون بسقف مصالح المشروع والدور الإيرانى ، أيا ما كانت المزاعم الأيديولوجية ، وعند نقطة معينة من تطور الكفاح الفلسطينى ، كالتى نشهدها اليوم ، لم يكن غريبا أن تبدى طهران ميلا للتراجع ، والإعلان عن عدم رغبتها فى خوض حرب شاملة مع كيان الاحتلال “الإسرائيلى” ، مع ضبط أسقف انخراط “حزب الله” بالذات ، وتبادل الرسائل الضاغطة مع واشنطن ، وعلى نحو ما فعلت بعد تدمير قنصلية طهران فى دمشق ، وقتل عدد من كبار قادة الحرس الثورى الإيرانى ، ومن دون رد إيرانى ، قد يتلكأ قليلا أو كثيرا ، لكنه ـ فيما نعتقد ـ لن يصل إلى حد إشعال حرب واسعة ، تشارك فيها طهران بسلاحها المباشر ، ربما رغبة من طهران فى مواصلة ما تسميه “الصبر الاستراتيجى” ، وعلى أمل أن يتاح لها قطف بعض ثمار معركة الدم الفلسطينى ، الذى يهزم السيف “الإسرائيلى” والأمريكى بإذنه تعالى .
Kandel2002@hotmail.com

بكره أحلى

رئيس مجلس الادارة ورئيس التحرير : وجدى وزيرى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

Demo Title

Demo Description


Introducing your First Popup.
Customize text and design to perfectly suit your needs and preferences.

This will close in 20 seconds

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock