عام

الرنين المتقطع “قصه قصيره”

بقلم :  صبري حنا

 

دفعني بذراعِه دفعة قوية دون اعتذارٍ أو تلميح؛ ثم انطلق بقوة كالثعبان الهارب بين الزحف البشري الجارف على رصيف أكثر شوارع وسط البلد بالقاهرة إزدحاماً بالبشر.

في بادىء الأمر حسبته مطارداً فأبطأت من خطوتي لثوانٍ رحتُ خلالها أبحث بين عشرات الوجوه المتجهمة، ومئات العيون التائهة عن أحدٍ يتبعه أو يلاحقه فلم أجد..!!

عدتُ من جديد أدقُ الأرض بحذائي القديم وأسرع من خطواتي، في محاولة مني للحاق به ومطالبته جبراً بالإعتذار، بعد أن جعل منسوب الغضب يرتفع في داخلي.

كان الرجلُ في العِقد الرابع من عمرِه؛ طويل القامة كثيف الشعر رث الثياب متجهم الوجه، عيناه زائغتان كعينيِّ الصقر المحبوس، لا تنم تقاطيعه إلا عن وجهٍ جبلي جامد كالصخر ولكنه لم يخفني. اعترضتُ طريقه فأبطأ من خطوتِه، تحسستُ موضع الألم في ذراعي وكتفي الأيمن، توقف عن المشي وإذ به يخرج من جيب بنطاله تليفوناً جوالاً على إثر رنينه المتقطع.

وقفتُ ساكناً مشدوهاً أمام هذا الصوت المتحشرج الذي ينطلق من فمِه، لم أهتز ولم أحرك ساكناً، إزدادت عصبيته فأخذ يدق الأرض بقدميه وهو يتمتم بهذيانٍ لم أفهم معانيه، دفعني كبريائي إلى الانتظار دون رغبة مني حينما بدأ بعض المارة يقفون بجوارنا عن استحياء، فإذ به يسبَ محدثه بعنف ويتهمه بالتراخي والفشل:

  • “أيوَّه يا نقيب زفت .. وبعدهالك .. أنا قلت الواد ده لازم يتأدب يعني يتأدب .. مفهوم .. اتصرف ده مش شغلي .. وإلا قسماً عظماً بكره الصبح تلاقي نفسك في الواحات ….. يعني إيه لقيته مسنود قوي..؟! .. إنت ظابط (خرع) .. يعني إيه أخويا يا بني آدم؟!.. أخويا يقوم يسرقني وينهبني وياخد مكتبي وشركتي .. افهم يا بني آدم .. أخويا إللي بأقولك تأدبه وتربيه ده .. هو إللي قاللي إخبط دماغك في الحيط ومطرح ما تحط راسك حط رجليك ..!!”

 

انفجرت في داخلي صرخة مكتومة ” أخـ ـ ـ ـ ــوه ..!!”

فجأة إزدادت ثورته هياجاً واشتعالاً فأخذ يترنح بين الأجساد المتلاحمة غير عابىء بعيون المتطفلين، حينئذ بدأ الخوف يعرف طريقه إلى قلبي، حاولت الابتعاد عنه فلم تطاوعني قدماي، نحيت فكرة معاتبته جانبا في ذات اللحظة التي كان يحدق فيها في وجهي ومازال الاتصال جارياً.

سبَّ الناس جميعاً، أعلن أنه سيف الله المسلط على رقاب العباد الجبناء والأغبياء والخونة، لعن الأيام السوداء التي مدَّ فيها يد المساعدة لمن لا يستحقون.

تحوَّل الأمر بالنسبة لي إلى لغزٍ غامض، أي حظ أغبر أوقعني بين مخالب هذا الوحش الآدمي؟ .. بإشارة منه أمرني بالإنتظار، فإزدتُ توتراً والتصقت قدماي بالأرضِ أكثر حينما اقترب مني خطوة صائحاً كالمسعورِ في وجهي:

  • “أعمل إيه مع الغبي ده؟ تقدر تقول لي يا بني آدم إنت؟! .. أأقولك أنا .. إيه رأيك لو أجمع كل البشر الحرامية وأرميهم على كوم زبالة وأولَّع فيهم..؟”

شىءٌ ما دفعني إلي موافقته فأومأت له برأسي ..

انفرجت أساريره وبدأت تخرج من حنجرته ضحكات هيستيرية لفتت انتباه بعض العابرين من الرصيف الآخر، فتوقفوا في أماكنهم، رأوه بأعينهم يربتَ على كتفي ويعتذر لي عما بدر منه ثم مهرولاً مبتعداً عني إلى نهر الطريق.

مازلتُ واقفاً كالأبله أحدقُ في بلاط الرصيف، أفكر فيما كان سيصبح عليه حالي إذا ما كنتُ تشاجرت معه؟ لم أنتبه إلى صرخات البعض تجلجل من حولي على إثر صوت فرامل إحدى السيارات وتصادم أخرى، حينئذ بدأت أفق من شرودي وأقف على حقيقة ما حدث.

رأيته طريحاً على الأرض والدماء تنزف من فمِه وأنفه، صرتُ شيئاً مغروساً في بحرٍ من الرمال المتحركة، أتلفتُ حول، أبحثُ عن لا شىء، لمحتُ بعض العيون الدامعة تنظر إلىَّ، عدتُ أحدقُ في وجهه، تأكدتُ أني أعرفه وقد تصادقنا، لم تطاوعني الكلمات وكأنني قد أصبتُ بالخرس.

نهض الشاب الذي كان يتحسس نبض صديقي النازف والفاقد لكل شىء، تمتم بالشهادة، ثم اقترب مني مصافحاً:

  • لا حول ولا قوة إلا بالله .. تشدَّد يا أخي .. البقاء لله .. خذ .. هذا يخص صديقك ..

وإذ به يضع تليفون صديقي في يدي، أخذته دون تفكير، بذهولٍ بدأت أتفحصه، وبِلا تردد ضغطتُ على زرٍ أعرفه جيداً ولمَّ لا وقد اشتريتُ بالأمس مثله لإبني، فإذ به بعد رنينه المتقطع يمزق صمت الرجال.

صوتٌ نسائي باكٍ يستحلفني أن أعودَ إلى المنزل، إلى حضن زوجتي حبيبتي وأولادي، ولن يجبرني مخلوق على الأرض أن يعيدني إلى المصحة بعد اليوم.

حينئذ أعدت التليفون للشاب، وبدأت الدموع تنسابُ من عينيَّ.

بكره أحلى

رئيس مجلس الادارة ورئيس التحرير : وجدى وزيرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى