كتب – مصطفى عابدين
تدقيق لغوى: محمد الملا
المتعة هي شعور إيجابي ناتج عن إفراز هرمون الدوبامين في الجسم. عملية إفراز هذا الهرمون مرتبطة مع نظام المكافأة و العقاب الدماغي. لنتكلم قليلاً عن نظام المكافأة و العقاب في الدماغ.
المكافأة:
سابقاً كان على أجدادنا العمل طوال اليوم في سبيل أن يحصلوا على وجبتهم اليومية، لكن في حال وجد أحدهم مصدراً غذائياً ذات سعرات حرارية عالية (العسل مثلاً) فهذا يعني أنه لن يحتاج أن يعمل طوال الوقت لتأمين حاجته في ذاك اليوم. تأمين الحاجة الغذائية دون الحاجة للعمل طوال اليوم هو أمر محبذ جداً و يعزز فرص صاحبه على البقاء. لهذا نجد أن الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية لها طعم لذيذ و الأطعمة المضرة (سمية) لها طعم غير جيد.
في حالة المأكولات اللذيذة يقوم الدماغ بربطها مع شعور إيجابي مفاده (هذا العمل جيد كرره). عملية الربط هذه تحدث عن طريق إفراز توقيع هرموني مرتبط مع الفعل. كلما وجد أجدادنا العسل مثلاً يتذكرون أنه لذيذ و طعمه طيب ليس لأن مركب السكر له طعم سحري و إنما لأن مركب السكر يقدم الطاقة للجسم بشكل فعال و لأن الدماغ ربط هذا الفعل الإجابي مع إفراز هرموني إيجابي.
الدماغ يتواصل مع أعضاء الجسم من خلال طريقتين. واحدة سريعة جداً (السيالة العصبية) و لها تأثير سريع جداً لكن لا يستمر أثره طويلاً و الطريقة الثانية هي من خلال إفراز الهرمونات و التي يكون تأثيرها ذو فعالية أطول لكن تأخذ بعض الوقت لكي تتفعل في الجسم.
العقاب:
كما أن الجسم يكافئنا على الأعمال الجيدة يقوم بمعاقبتنا على الأعمال المضرة (حسب تقديره).
مثلاً، إذا قمنا بعمل غير مفيد لبقائنا مثل التهام أطعمة سمية أو فاسدة يقوم الدماغ بمعاقبتنا و ربط هذا الفعل مع توقيع هرموني و إجرائي سلبي لكي لا نكرره مرة أخرى.
عندما تأكل مأكولات سامة يقوم الدماغ عن طريق حاسة الذوق و الشم باستشعار المواد السامة و إطلاق سيالة عصبية مفادها أنك تلتهم مادة غير مقبولة للجسم. أيضاً يقوم الجهاز العصبي بأخذ مقود القيادة و يتخذ إجراءات احترازية في إجبار الجهاز الهضمي على إخراج ما تم التهامه عن طريق فعل لا إرادي نسمية “التقيؤ”. توجد إجراءات أخرى يقوم بها الدماغ مثل إفراز الأدرنالين و ذلك نتيجة اعتقاده أنك تتعرض للخطر لكن لن أدخل بكل هذه التفاصيل في هذا المقال.التفاصيل في هذا المقال.
مثال آخر:
عندما تُرضع الأم رضيعتها يقوم الدماغ بإفراز هرمون الأوكسيتوسن (هرمون الترابط الاجتماعي و الحب) لربط العملية بشكل إيجابي بين الأم و ابنتها و أيضاً يفرز بعض الدوبامين لكي لا تكون عملية الإرضاع مؤلمة دون متعة فيموت الأطفال من الجوع.
ملاحظة: قد يبدو من طريقة طرحي أن الدماغ يقرر أن يفرز هذه الهرمونات لأنه على دراية بما يجري في العالم الخارجي أو أنه مصمم للقيام بهذه الإجراءات إلا أن الموضوع يتطلب فهم نظرية التطور عبر الانتقاء الطبيعي و ربط آليات التطور و كيف ممكن أن تنتج عنها هذه الأنظمة التي تتواصل فيما بينها عبر الرسائل الهرمونية.
إفراز الدوبامين من أكثر الرسائل الدماغية فعالية و أقدمها حيث أنها موجودة لدى جميع الأحياء. الألم في المقابل هو رسالة إنذار أن الجسم يتعرض إلى أذىً و نجد أن آليات الشعور بالألم لا يمكن تجاوزها بشكل طبيعي لأنها بمثابة منبه أو جهاز إنذار يجب أن يستمر في إرسال الرسالة حتى يتم معالجة المشكلة. الألم جهاز إنذار لا يمكن تجاوزه بشكل طبيعي.
المزيد من الدوبامين:
تم وضع فأر مختبر في قفص و تم وصل مجسات كهربائية داخل دماغه في منطقة و هي المنطقة المسؤولة عن تنظيم إفرازات الدوبامين في الجسم (قسم المكافأة). تم وصل المجسات الكهربائية مع ساعد موجود داخل القفص كلما تم ضغطه يرسل إشارة كهربائية للدماغ و يحفز قسم المكافأة على إفراز الدوبامين.
الفأر اكتشف الساعد و بدأ يضغط عليه باستمرار. مع الوقت توقف الفأر عن فعل أي شيئ سوى الضغط على الساعد و دخل في حالة إدمان. الشعور بالمتعة شعور أقوى من كل الغرائز الأخرى و المثير للاهتمام أن الفأر مات بعد عدة أيام بسبب الجوع و العطش إذ أنه اختار عدم التوقف عن ضغط الساعد مقابل جرعات الدوبامين.
هذه التجربة توضح مدى تأثير الدوبامين على الجسم و منها أود ربط عدم قدرة الذكر على الممارسة الجنسية لأكثر من مرة بشكل متتالي. الذكر يفرز كميات كبيرة جداً من الدوبامين أثناء الوصول لمرحلة القذف (الذروة الجنسية) و لهذا نجد أن ذكر الإنسان تطور بحيث لا يمكن أن يمارس الجنس بشكل متكرر كآلية لحمايته من الاستمرار في العملية الجنسية حتى الموت. أيضاً هذا مثال جيد لتفسير لماذا الكثير من مدمني المخدرات يصلون لمراحل خطيرة و مع ذلك لا يستطيعون التوقف دون مساعدة طبية. (المخدرات عبارة عن محفز دوبامين)
الإدمان هي حالة دماغية مرتبطة بحاجة الجسم إلى القيام بفعل ما لتحفيز إفراز الدوبامين. توجد مواد محفزة لإفراز الدوبامين منها النيكوتين و الكحول و غيرها (الهيروين و الكوكايين). في حالة الإدمان يتأقلم الجسد مع مستويات الدوبامين المفرزة و ترتفع عتبة الحساسية للدوبامين فيتطلب الجسد كميات أكبر من المحفذ فيشعر المدمنون أنهم بحاجة جرعات أكبر
حسناً موضوع الهرمونات و الدماغ هو موضوع شيق جداً و مركب جداً و أشعر أنني لن أتوقف عن الكتابة لكن يجدر بي أن أعود لموضع هذا المقال. الفرق بين المتعة و السعادة ولكن، مثال أخير عن المتعة أعدكم….
لعبة Candy Crush لها سيط واسع بين الناس و هذا لأنها لعبة تعتمد على إفراز الدوبامين. اللعبة مبرمجة بطريقة تكون صعوبة المراحل فيها موزعة بشكل عشوائي مع اعتبار وجود كمية لابأس بها من المراحل السهلة جداً. اللاعب يبدأ اللعبة و كلما قام بفعل جيد يجد على الشاشة عبارات ذات طابع إيجابي (positive reinforcement).
مع الوقت تصبح هذه العبارات مرتبطة بإفرازات صغيرة من الدوبامين. اللاعب يدمن على هذه الإفرازات إلى أن يصل إلى مرحلة صعبة فيجد صعوبة في الحصول على الجرعات المعتادة. فجأة تنتهي اللعبة و تقول لللاعب أن يعود بعد مدة زمنية محددة.
إعطاء جرعات من الدوبامين ثم إيقافها فجأة يسبب حالة من الإدمان لأنك لم تتوقف بشكل طوعي و إنما تم أخذ جرعاتك منك بشكل قسري.
مثال أخير….
الفيس بوك يعتمد على نفس الآلية. كل ضغطة إعجاب like تسبب إفرازاً ضغيراً من الدوبامين بالإضافة للعديد من العوامل الأخرى المتعلقة بحاجاتنا إلى التواصل الاجتماعي (أوكسيتوسن). أنت تتصفح الفيس بوك كل يوم لأنك مدمن على الدوبامين.
أتمنى أن يكون أصبح واضحاً أن المتعة عبارة عن حالة دماغية لها مؤثرات فيزيولوجية و لا يمكن أن تسمتر طوال الوقت. يختلف معدل إفراز الدوبامين بين الأشخاص لذلك قد نجد الشعور بالمتعة يتفاوت بين الأشخاص بناءً على الأعمال التي يقومون بها. المتعة محفز رئيسيّ للقيام بالعديد من الأعمال اليومية و لكن مع الوقت تنخفض عتبة الاستشعار بالدوبامين فنشعر بالضجر و الملل و نبحث عن محفزات جديدة و هكذا.
السعادة نتيجة المتعة:
السعادة هي حالة عامة تتعلق بالاستقرار الهرموني في الجسم. الإنسان الذي يحقق استقراراً هرمونياً في أغلب الأحيان هو إنسان سعيد. في قول آخر، كلما كانت خياراتك هي خيارات تساهم في إفرازات هرمونية إيجابية فأنت تتجه نحو حالة عامة سعيدة. الفرق بين السعادة و المتعة هو أن المتعة هي تكتيك و السعادة استراتجية. كلما كانت أساليبك في الحصول على الدوبامين هي أساليب طبيعية كلما كنت تحقق استقرار هرموني في جسمك.
طبعاً الاستقرار الهرموني لا يمكن اختزاله بالدوبامين فقط و إنما يوجد لدينا طيف واسع من الهرمونات التي تتفاعل مع بعضها البعض. فمثلاً هرمونات الأوكسيتوسن و السيروتونين و الإندورفين و غيرها جميعا تشكل الخلطة الأساسية للحالة النفسية للفرد. كلما كانت نسب هذه الهرمونات متوازنة كلما كانت حالة الإنسان مستقرة و أقرب إلى السعادة. يجدر الذكر أن هرمون السيروتونين له وظائف هامة جداً في استقرار الحالة النفسية (الدماغية) عند الإنسان و هو يسمى هرمون السعادة، لكنني سأتحدث عنه في مقال منفصل.
مستقبلاً سأعمل على مقال حول كيفية الوصول إلى حالة من السعادة بشكل علمي. طبعاً كل إنسان يختلف عن غيره لكن مجرد معرفة كيفية آليات عمل الجسد ستساعد الكثير من الأصدقاء في السيطرة و التحكم بحالتهم النفسية…
أتمنى لكم السعادة….