قصة : صلاح هلال حنفى
وقف الوالد أمام داره .. ينعم تحت فروع شجرة التوت القابعة فى صحن الجرن .. بزهو وإباء .. متفاخرا بدوره فى الحياة بعد أن علّّم ابنه الوحيد .. وأحسن تربيته .. وعيناه تغوصان بتأمل فى الفراغ الواسع من الأرض الطينية .. الممتدة بخضرة بلا نهاية .. أحس أن الوقت يمر عليه ثقيلا .. يقتل .. يعدم فرحته .. حيث تربعت الشمس فى كبد السماء .. فازداد الجو لهيبا .. فانعكست أضواؤها على البناية الأسمنتية المسلحة .. قد فاح منها طلاء الزيت والجير اللذين يزهقان الأنفاس مع هذه الموجة الحارة .. تذكر ابنه عندما شب للحياة .. يراه يقف .. ينظر يكلم نفسه من وقت لآخر .. يصعد سور الفيلا التى تبعد قليلا عن بيته .. يتابع ما يدور بداخلها .. كلما نهره .. ينظر إليه بازدراء .. أحس أن ابنه لم يرض بهذه المعيشة ..ثم يرجعه إلى صوابه على الفور : ـ انظر إلى صديقك فى الطفولة .. يحمد الله فى السراء والضراء .. يا بني الفقر لم يكن عيبا . الصحة كنـز لا يفنى .
ثم يتركه .. ويمشي بعيدا وهو يدق الأرض بقدميه ساخطا .
مازال مستمرا مكانه .. يتابع بلهفة مجيء ابنه المدلل ورفيقه حسن صاحب البصيرة النافذة .. يجئ بقدومهما الخبر السعيد .. حصولهما على بكالوريوس الطب فتذكر كلام ابنه .. وعيناه تغوصان فى بيته بالطوب اللبن الذى ورثه عن جده ، حيث كان يجلس على الكرسى الخيزران فى المندرة حيث كان ذا فطنة ودهاء فى حل مشاكل العائلات المتنازعة يلتفون حوله يجلسون على الكنب المفروش بالأكلمة المزركشة ومن شدة الزحام كان آخرون يجلسون فوق المصاطب .. ها هو البيت ما زال حيا .. لم يتأثر منذ القدم بأي زلزال مهما بلغت قوته .. ولا بصرير عجلات القطار المجاورة .
عندما يتحقق حلم ابنى .. ويسقط عرشك .. ويرفع قواعدك .. سوف تنهار معك حياتى وأجدادى إنك تأوينى بجدرانك الدافئة فى أعز زمهرير الشتاء وترطب مجلسى .. وراحتى .. فتمحو منى عرق الغيطان فى عز القيلولة .
يتذكر سجائره الملفوفة .. فيمد يده فى جيب الصديرى المهترئ .. المثقوب كالزمن .. لم يجد سوى واحدة بارزة من علبة صفيح متآكلة ، ووضعها بين أصابعه الخشنة أشعلها .. ينفث الدخان .. يسعل .. يكح بشدة فيضرب الأرض بقدميه الحافيتين العريضتين .. ذات الشقوق الكبيرة كأنها المحرومة من المياه ، تذكر رفيقه أبو الحسن حيث تعانقت أقدامها سويا مع ترابها وطينها .. حيث يشتغلان أجيرين فى الغيطان .. فتأتيه الهواجس تدور بداخله .. وسرعان ما كذب نفسه .. فتمتم وقال :ابنى سوف ينير لى الطريق
حيث ابنه المدلل بطبيعته يحب التنـزه هو ورفيقه حسن فى العصارى على الزراعية .. كلما وقعت عيناهما سويا على والديهما فى وسط الغيطان .. بسرواليهما الأبيض المهللين الملتصقين عليه غبار تراب الزمن .. كالعادة يشمئز .. يتوارى منهما بين الأشجار متجها إلى البيت .. رفيقه ينهض إليهما يقبل أيديهما متفاخرا . يسأل الوالد عن ابنه المدلل :
ـ “أمال راح فين صاحبك ؟”
ـ عاد إلى البيت ليكمل مذاكرته !
مازال يسحب نفساً طويلاً .. يسعل .. يكح .. ينفث الدخان فيصنع سحابة بيضاء .. كثيفة .. طويلة وقفت تراكمت فوق الزروع .. الورود .. بين صرير عجلات القطار .. من بين تلك السحابة يرى ابنه وزميله يتدليان من القطار فى أثناء دخوله المحطة رويدا .. رويدا .
عندما التقت الوجوه اغتبط قلبه .. وانتفضت شرايينه فى صدره .. وانتفخت أوداجه كأنها تروى أرضا محروثة .
فبادر حسن فرحا مبتهجا .
ـ لقد نجحنا وأصبحنا طبيبين والحمد لله والفضل لكم
ـ ألف مبروك يا أولادى .. ألف مبروك .. دا النهارده العيد .
لقد هم بالقبلات الجارفة نحو ابنه .. التى كان ينتظرها بشغف .. منذ سنوات عجاف طوال ، ولكن الابن المدلل ينظر إليه بكبرياء .. باستياء فيبتعد عنه شيئا فشيئا .. واستدار بظهره فتفحم وجه الأب .. وانتفضت روافد قلبه .. وطأطأ رأسه كالنعامة ، والسيجارة ازدادت اشتعالا .. واعتصر قلبه .. وذبل جسده .. اصبح كل ما حوله صامتا فأحس أن الأرض تهوى به .. فانكب على وجهه .. احتضنته برفق .. تواسيه .. تجفف دموعه بترابها .. هرع إليه الطبيب حسن ورفعه بحنان .. احتضنه ..ظل يقبله.. .. فأشار له بطرف عينه نحو داره معلنا الدخول .. وعيناه ترق بابتسامه من بين دموع حجرت