ليست قضية جديدة، الدعوة إلى الكتابة بالعاميّة. وقد نتأت الدعوات من أسباب انغلاقية مثل النزعات الوطنية الضيقة (سعيد عقل مثالا) إلى أسباب انفتاحية جدا تحت دعوى الديمقراطية الكتابية، والإتاحة، وتعميم الإبداع على الشريحة العامة.
بدايةً، علينا أن نعرف أن العامية –أي عاميّة – هي تفرع بل وانحراف عن لغة رئيسة، فعلاقتها باللغة الأم علاقة مُروق، علاقة الفرع بالأصل، وعلاقة الأدنى بالأعلى. وهي رغم ذلك ظاهرة طبيعية وموجودة في كل اللغات تقريبا، لكن بدرجات متفاوتة من حيث الابتعاد أو الاقتراب من اللغة الأصلية.
الأصل في العامية هو الشفاهية، والعامية تستخدم لإنتاج صنوف إبداعية شفهية مثل الشعر الشعبي (نبطي، زجل، ملحون، … إلخ) وفي الشعر الغنائي، وفي “الحزاوي” أو “الحواديت” (قصص ما قبل النوم للأطفال). فلست هنا أشكك في مقدرتها على إنتاج إبداعي، بل في المدى الذي يمكن أن تصل إليه في ذلك. فهي رغم شيوعها تظل تعاني من الفقر ليس في المفردات بل في وسائل التعبير. ويكفي غياب الإعراب وغياب التشكيل في أواخر الكلمات لنقول أن العامية قاصرة. ففي الآية الكريمة {… أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ…} نجد أنّ التشكيل ضروري وإلا قٌلب المعنى. بينما غياب ذلك في العامية يضطرنا إلى تغيير أماكن الكلمات خوفا من اللبس. وهذا يعني أن العامية تراوح في نطاق ضيق من حيث قدرتها على تحريك الكلمات في الجملة الواحدة. وهذا مجرد مثال واحد على ضيق الحركة التي تعانيه العامية، والتشعب في تفصيل هذا ليس موضوع هذه المقالة.
العامية مرآة التراجع
رغم شيوع العامية وسواغها، ترتبط العامية ارتباطا طرديا بمستوى هبوط أي أمة. فسيادة العاميّة وانتشارها كمّا، وتعزيز ثرائها كيفا بتوليد كلمات جديدة، مؤشران على حالة من التراجع الحضاري. وهذا طبيعي، فكلما تراجعت الحالة الثقافية الحضارية لأمّة، لكما مال أفرادها إلى الانغلاق والإغراق في المحلية ومن ذلك التمحور حول اللهجة الخاصة بهم. وبالمثال يتضح المقال. إذ يمكن للمتمعن أن يستنتج أن قصيدة “صوت صفير البلبل” الشهيرة، والتي تنسب زورا للأصمعي لا يمكن أن تكون له، ليس لأنّ الأصمعي لا يناسبه الهزل بهذه الطريقة، بل لأن ثمة كلمات لا تناسب فصاحة الأصمعي ولا فصاحة الخليفة (ثاني خلفاء الدولة العباسية) ولا فصاحة العصر. فبيتٌ مثل:
وَالكُلُّ كَع كَع كَكَعٌ *** خَلفي وَمِن حُوَيلَلي
يبدو نافرا عن السياق اللغوي الرصين في ذاك العصر، في مجالس الخلفاء على الأقل. ولو أنّ الواقعة حقيقية، فغالب الظن أنّ أبا جعفر المنصور كان سيأمر بتعزير القائل على تشويهه وعبثه باللغة، أو استهزائه وتهريجه في حضرة الخليفة، بدلا من أن يُسقط في يديه، ويذعن له.
القراءات العشر واللهجات
تاريخيا، لم تتحقق قط تلك القصة الخرافية التي يتوسّمها بعضنا ويتوهمها البعض الآخر؛ أن يتكلم الجميع بلسان عربي واحد بلا لهجات. فاللسان العربي تتعدد لغاته (وهنا علينا أن نبين أن العرب كانت تسمّي اللغة لسانا، واللهجةَ لغةً) منذ قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام وحتى يومنا هذا. ولهذا هناك قراءات عشر للقرآن الكريم رغم أن معظما لا يعرف إلا واحدة، ولذلك جاء الرسم العثماني بهذه البساطة غفيرة التفاصيل كي يستوعب القراءات العشر التي جاءت لتناسب لغات (لهجات) عدّة.
لكن السؤال، هل المسافة بين اللغات (أي اللهجات) في القراءات العشر وبعضها، بمسافة الفرق بين الفصحى والعاميّات اليوم؟ قطعا لا! لا يغير شيئا لو قال القارئون بلغة قالون “لقوم يومنون” أو قال القارئون بلغة حفص “مؤمنون”. ولن يضير أحد شيئا لو قال أحد “والضحى” بالإمالة أو بالقراءة المعتادة التي ألفناها في قراءة حفص.
جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلّم أهل حِمير بقوله: ” ليس منَ امبِرِّ امصيامُ في امسفَرِ”، أي ليس من البر الصيام في السفر، وهذه اللهجة أو ما يشابها موجودة في “جازان” اليوم. لكنّ هذه اللهجة لم تأت قراءة عليها لأنها مغرقة في خصوصيتها. كشكشة بني تميم أيضا مغرقة في خصوصيتها، فيقولون “كيف حالش؟” إذا فالتحجج بالقراءات العشر لفتح الباب على مصراعيه للهجات استدلال باطل. ومن هنا نجد أن الإسلام اقرّ اللهجات التي تدور في لسان العرب الفصيح، وابتعد عن اللهجات الغارقة في خصوصيتها. وهذه أول محاولة توحيدية شهدتها اللغة العربية، ولم تكن باعتماد لغة (لهجة) واحدة، بل لهجات رئيسة. إذًا، العامية ليست بهذا السوء، لكن علينا أن نعي عن أي عامية نتكلم. وعاميات اليوم غارقة في خصوصيتها ونرجسيتها، وليست حتما مثل لهجات العرب العشر الرئيسة آنذاك.
أثر سقوط القومية العربية
أنا من جيل نشأ في وقت كانت القومية العربية طاغية، ومجرد التفكير أن نجد مَن يكتب بالعامية كان بالنسبة إلينا أمرا مزعجا. وهنا يبرز السؤال ما الذي تغيّر؟ ما الذي جعل بعض الكتاب تراودهم هذه الفكرة؟
1. سقوط القومية العربية وما رافقها من تمجيد استبدادي للغة العربية. وهذا مبرر، إذ كانت اللغة المقوّم الرئيس للقومية العربية.
2. الفضاء الذي أتاحته الإنترنت بعيدا عن النشر التقليدي الذي كان هناك من يتحكم به ويصعب أن تجد العامية منفذا فيه. ولا أتذكر في طفولتي أني قرأت شيئا بالعامية إلا بعض الكلمات هنا وهناك في مجلة سمير أو ميكي. سقوط رئيس التحرير، سقوط المؤسسة، وبروز المجال للشخص أن يكتب ما يريد على الإنترنت أفسح المجال للكتابة بالعامية في المنتديات، ثم المدونات، ثم ونتيجة لذلك الكتب. ونجد مثلا مدوّنة غادة عبد العال “عايزة أتجوز” التي تحولت إلى كتاب شهير ثم إلى مسلسل. هذا ليس أول مثال على كتاب بالعامية أنجبته الإنترنت، لكنه مثال شهير. كما أن إطلاق “ويكيبيديا” لنسخة منها بـ”اللغة” المصرية أمر دال على تأثير هذا الفضاء المفتوح على القضية. لنقارن ذلك بدعوى سعيد عقل لاعتماد العامية، وإصداره لجريدة باللغة اللبنانية. نجد أن تلك المحاولة أثارت ضجة ثم ماتت، لأن الآليات آنذاك لم تكن متوفرة. أما اليوم، فالوضع اختلف. علينا أن نشير إلى أن الدعوة للعامية كثيرا ما تكون مرتبطة بدعوات قومية ضيقة، أو أنها في النهاية ستفضي إليها حتى لو كان أصحابها بُرآء من هذه النزعات.