مقالات الكُتاب

ليلة من زمن مضى (قصة قصيرة)

بوشعيب عطران

بروكسيل

 

ربما سلكت الطريق الخطأ إلى مسكني، لكن فضولي باكتشاف الأمكنة المحيطة بي أقوى من حذري.

 

دقات الكنيسة العتيقة التي اعتدت سماعها، خففت من توجسي، البناية التي أثارتني وجذبتني أصواتها الصاخبة غير بعيدة عنها، تقبع وسط غابة صغيرة، أشجارها المتطاولة تأخذ منظورًا شبحيًا.

 

كي لا أثير فزعي، بالغت في تقدمي..

 

كانت لحانة اسمها محفور على خشبة مستطيلة، مشدودة بسلسلة طويلة، لم أتبين أحرفها للإضاءة السيئة.

 

وجدت ضالتي، كنت في حاجة لشرب بعض النبيذ، لعله يدفأ صقيع غربتي وامرأة تؤنس وحدتي.

 

دفعت الباب بتأن، أعلن عن طقطقة، نظرات قلقة استقبلتني، تجاهلتها وانزويت وحيدًا.

 

وضعت كوعي على الطاولة وأسندت ذقني فوق يدي، اختلست النظر إلى وجوههم، الضوء الضئيل أضفى على سحناتهم شحوبًا مرعبًا وأصواتهم الصاخبة التي كانت تصلني، تحولت إلى همس، كما أثارتني ملابسهم المختلفة عما عهدته بهذا البلد.

 

داهمني شعور غريب، كأني انتقلت إلى عالم آخر، فالهواء كان ثقيلاً والزمن يتدفق بإيقاع مغاير.

 

تقدمت مني سيدة خمنت أنها في الأربعين، أنيقة بملابس خفيفة، تكشف عن فتنة جسدها المتناسق مما أجج رغبتي.

 

لبت طلبي بابتسامة عريضة وكلمات ترحيب بددت مخاوفي، دفعتني لدعوتها، بهزة رأس ودية وافقت سريعًا.

 

حالما انتهت جلست قبالتي تحدثني ووجهها يدنو من وجهي، فيثيرني عطرها، إلا أن حديث كريستين – وهذا اسمها- الممزوج بالأسى أخمد كل رغبتي.

 

أخبرتني أنها فقدت زوجها في الحرب الأخيرة، تركها وحيدة تدير هذه الحانة بمساعدة قريبتها، ضاعت هي الأخرى أسرتها إثر غارة جوية. تنهدت بصوت مسموع وتابعت:

 

– لا أستطيع إغلاقها، فهي مورد رزقي وملاذ سكان هذه المنطقة، يقتنصون فيها بعض اللحظات للترفيه عن أنفسهم، أناس بسطاء لا شأن لهم بهذه الحرب اللعينة.

 

بدت ملامحها صادقة والألم يعتصرها، لكن الشك ساورني وأصابني حديثها بالضيق والذهول. تساءلت مع نفسي: “عن أي حرب تتحدث وبلدها ينعم بالسلام…؟”

 

فيما أنا غارق في هواجسي، هتف الجميع مرة واحدة ملوحين بأيدهم:

 

– هيا يا جوزفين..

 

في أقصى القاعة، برزت شابة جميلة ذات عينين واسعتين، شعرها يتدلى منسدلاً، ردت عليهم بإيماءة خفيفة وخطت برشاقة نحو بيانو يرقد أمامي، بدا لي وجهها مغطى بغشاء حزين، فورًا أدركت أنها قريبة كريستين.

 

انطلى على المكان هدوء غريب، فيما أناملها توقع ببراعة على مفاتيحه أنغاما شجية، زادها وقع المطر سحرًا على النفوس.

 

أثناء عزفها، كانت ترمقني بنظرات حانية، كما لو بدت مستأنسة بوجودي، فكلانا يعيش محنته.. تعجلت الانصراف، أردت تسديد حسابي، إلا أن كريستين أبت واعتبرتها هدية، شكرتها على كرمها وغادرت مسرعًا.

 

في الخارج، استشعرت أن سماء الليل التي أراها فوقي، تغاير نوعًا ما السماء التي اعتدت رؤيتها، كما أنه لم يكن سهلاً على عقلي، أن يؤكد ما وقع عليه نظري. قفلت عائدًا إلى مسكني، بصعوبة وجدته..

 

في صمت غرفتي، عاودني الضجيج، اختلطت علي الأمور، وحلم يتراءى لي عن بعد، تارة منجذبًا إلى كريستين، تارة إلى جوزفين.

 

مر أسبوع، ككل مساء أبحث عن الحانة، مستعينًا بالكنيسة العتيقة لتحديد موقعها، لكن دون جدوى كأن الأرض انشقت وابتلعتها.

 

كثرت تحركاتي، ربما رصدتني كاميراتهم أو بلغ عني أحدهم، لأجد الشرطة في انتظاري، قادوني إلى مكتبهم للتحقيق من هويتي وثبوت أوراق إقامتي، كل شيء كان سليمًا، إلا حكايتي كذبوها فلا برهان لتأكيدها، علق أحدهم ساخرًا:

 

– إنها الخمر أيها الأجنبي، فهي جد قوية ومؤثرة.

 

أمروني بالانصراف وعدم التسكع هناك، وإلا ستكون عاقبتي السجن. خرجت مبلبل الفكر، مشتت الذهن وأسئلة كثيرة تضج برأسي، تضعني على حافة الجنون، إذا بيد شرطي كهل تهزني، لم ينبس بكلمة طيلة أطوار التحقيق، طلب مني إعادة ما رأيت تلك الليلة، ابتهجت كثيرًا حين صدقني، نظر إلي شاردًا وبصوت مفعم بالأسى قال:

 

– لقد صادفت تلك الليلة العاشر من مايو، ذكرى رهيبة لسنة 1940 على تلك المنطقة، إثر غارة جوية للقوات النازية، دمرتها بالكامل بما فيها تلك الحانة.

 

تمتم بصوت خفيض كأنه يخشى شيئًا:

 

– يذكر أهالي تلك المنطقة، أنهم في بعض الليالي يسمعون ما يشبه الصراخ والعويل، تعقبها موسيقى جنائزية..

 

عدت أدراجي والحيرة تلفني بالكامل، كما لو أني تلك الليلة بنقرة واحدة كنت خارج زماني.

 

بكره أحلى

رئيس مجلس الادارة ورئيس التحرير : وجدى وزيرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock