عام

تصريحٌ آخر “قصه قصيره “

بقلم : صبري حنا

 سألها بخوفٍ :
هل تبكين يا حبيبتي؟ .. أرى دموعاً في عينيكِ..!!
اقتربت منه أكثر .. بصعوبةٍ وبدلالٍ مصطنع أجابته هامسة :
هل حقاً رأيتَ دموعي يا زهرة شبابي؟! .. أنا لا أبكي .. خانتك عيناك هذه المرة يا رفيق حياتي.
أخذته نوبة سعال جديدة .. تمتم ببضعة كلمات غير مفهومة ..اهتز السرير بشدة .. مدَّت يدها المرتعشة بسرعة إلى دورق الماء فوق “الكومودينو” .. ساعته على ارتشاف بعض منه .. هدأت ثورة رئتيه .. حدَّق في عينيها .. أخذ يتحسس جفنيها بظهر سبابته .. قال بزهوٍ :
لم تخني عيناي .. إنك تبكين يا سلطانة قلبي .. لمَّ البكاء؟! .. أنا بخير اطمئني ..
قالت مقاطعة :
أبداً .. لم أبكِ .. إنها الحساسية يا حبيبي .. فقد أتيتُ إليك على عجلٍ ولم أضع قطرة الصباح كما أوصاني الدكتور ..
أومأ برأسِه مستطرداً بلجاجة :
مازلتِ قوية متماسكة .. كم كنتِ حبيبة رقيقة .. أشكرك يا رفيقة حياتي على كل لحظة حُلوة قضيناها معاً .. آهٌ .. كم أودُ الآن أن أولد من جديد وألتقي بكِ .. وتمضي بنا رحلة الأيام كما عشناها .. بحلوها ومرها .. تمسكين حبل الشراع وأنا أحركُ الدفة ..
سكت برهة .. لم تعلق عل كلماته كما كانت تفعل من قبل .. كان رأسها يعلو ويهبط مع حركة صدره .. لم يشعر بألمٍ في صدره .. ذهبت عنه أثار الذبحة الصدرية .. شعر أنه شفيّ تماماً .. أخذ يداعب بقايا خصلات شعرها الفضي .. ارتسمت على شفتيه ابتسامة حلوة .. سألها مداعباً عن الهدية التي تريدها في الغدِ بمناسبة عيد ميلادها الثمانين .. لم تجبه .. ظنَّ أنها هائمة بمداعبة أنامله الساحرة كما كانت تطلق عليها منذ أكثر من نصف قرن .. أرخى ذراعه على رقبتها .. نظر إلى السماء بإرتياحٍ عبر زجاج النافذة المغلقة .. أغمض عينيه الذابلتين .
بعد وقتٍ قليل دبت الحياة حول سريره في غرفته بالجناح الفاخر بالمستشفى .. قال الطبيب المعالج محدثاً زميله :
لقد أوصاني أن تقوم إدارة المستشفى بإجراءات دفنه حيث لا يوجد لهما أقارب ..
أومأ الطبيب الشاب برأسِه .. ثم قال :
سمعتُ أنه أوقف نصف ثروته لصالح إحدى مستشفيات الأطفال الحكومية .. والنصف الآخر لزوجته حتى موتها .. يستغل بعد ذلك أيضاً في إنشاء عدد من الأقسام المجانية لعلاج غير القادرين من مرضى الفشل الكلوي .. لكن الآن ..!!
قال الطبيب المعالج مشيراً إلى السرير :
الآن .. هاك تصريح دفن آخر لزوجته المحبة.
انصرف الطبيبان .. جذبت الممرضة ستارة النافذة وهرولت دامعة منصرفة هى الأخرى .. بعد أن أغلقت عليهما الباب.

بكره أحلى

رئيس مجلس الادارة ورئيس التحرير : وجدى وزيرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock